وداعاً أيها البطل ..
د.محمد بن عبد الرحمن العريفي
الحمد لله المحمودِ بجميع المحامد تعظيماً وثناءً .. المتصفِ بصفات الكمال عزّة وكبرياءً ..
الحمد لله الواحدِ بلا شريك .. القويِّ بلا نصير .. العزيزِ بلا ظهير .. الذي رفع منازل الشهداء في دار البقاء ..وحث عباده على البذل والفداء ..
أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه .. فهو الأول والآخر .. والظاهر والباطن ..ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمةِ الكرام النجباء .. وسلم تسليمًا كثيرًا ..
أما بعد .. أيها الأخوة والأخوات ..
يطول الطريق على السالكين .. وتكثر هوامه وعقباته ..
ويتكالب الأعداء .. ويعظم البلاء .. ويقل الناصر .. ويتمكن الفاجر ..
وتضعف الهمم .. وتخور القوى ..
وفي كل يوم يولد همٌ كبير .. وقضية ثكلى .. ويتساقط قتلى .. ويموت جرحى ..
ويبرز خلال الطريق أبطال .. اختاروا لأنفسهم طريقاً حُفت بالمكاره ..
وصبغت بالدماء .. وفرشت بالأشلاء .. وأحيطت بالبلاء ..
أبطال لهم غاية عظمى .. يسيرون إليها ولا يلتفتون وراءهم ..
هممهم عالية .. وغاياتهم غالية ..
باعوا نفوسهم لله .. والله اشترى ..
يعلمون أن وعدَ الله حق .. وأن نصره صدق .. وإن تأخر .. { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}
فنحن اليوم نتحدث ..عن أولئك الأبطال ..
الذي حملوا همَّ الدين ..
شعارهم ( فلا تخافوهم وخافون ) ..
وسلاحهم ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ) ..
وميدانهم ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) ..
لا يخافون إلا ممن بيده أسباب الخوف والأمن ..
كانوا يتسابقون إلى الموت ..
أخذوا بنواصي الأكاسرة .. وهامات القياصرة ..
وذروا التراب على وجوه الطغاة ..
يعلمون أن أمر المسلمين قد يعلو تارة .. ويهبط أخرى .. فإذا علا شقوا طريقه بالدم .. وإذا هبط سحقوا لأجل رفعه الجماجم ..
فمن هم أولئك الأبطال ..
إنهم قوم صالحون .. بين قوم سوء كثير ..
إنهم رجال ونساء .. صدقوا ما عاهدوا الله عليه ..
إنهم الذين إذا رأيتهم .. رأيت في أرجلهم غبار الجهاد .. ورأيت في وجوههم أنوار العُباد ..
يقبضون على الجمر .. ويمشون على الصخر ..
ويبيتون على الرماد .. ويهربون من الفساد ..
صادقةٌ ألسنتهم .. عفيفةٌ فروجهم .. محفوظةٌ أبصارهم ..
كلماتهم عفيفة .. وجلساتهم شريفة ..
إنهم الذين أحبهم الله واصطفاهم .. وقربهم وأدناهم ..
الذين ابتلوا فصبروا .. وأعطوا فشكروا ..
إنهم رؤوس الأولياء .. وقدوات الأتقياء ..
الذين ما يقلب مؤمن سيرتهم .. إلا ويشتاق إليهم ..
إنهم السابقون إلى الجنات .. المتقلبون في الخيرات ..
إنهم الذين ما نظروا إلى لذة أجسادهم .. ولا متعة أبدانهم ..
وإنما أشغلتهم خدمة الدين .. ورضا رب العالمين ..
ولا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته ..
* * * * * *
نعم .. فنحن اليوم نتحدث ..عن أولئك الأبطال ..
الذين لم يكونوا أبطالاً في الجهاد .. ولا في دعوة العباد ..
ولا أبطالاً في الكرم .. ولا في شكر النعم ..
ولا ابطالاً في الذكر والعبادة .. ولا في الصبر والزهادة ..
كلا .. ولم يكونوا أبطالاً في نصرة الدين .. ومجاهدة المشركين ..
وإنما كانوا أبطالاً في ذلك كله ..
نعم ..
كأنما البطولة صيغت رجلاً .. فكانت أولئك ..
أول أولئك الأبطال هو غلام .. لم يبلغ الحلم .. عمره دون الخمس عشرة سنة ..
عاش في عصر ملك ظالم .. كان يدعي الألوهية .. وكان له ساحر يزين له باطله ..
وكان هذا الساحر يستعين بالجن .. ويخبر الملك بأسرار الناس ..
فإذا حدثهم بها الملك ظنوا أنه يعلم الغيب .. فازدادوا به فتنة ..
فلما كبر الساحر .. قال للملك :
إني قد كبرت .. وإني أخاف أن أموت فيذهب عنكم هذا العلم ..
فأبعث إليَّ غلاماً فطناً لقناً أعلمه السحر ..
فبحث الملك في الناس .. حتى وجد غلاماً فطناً جريئاً .. فبعث به إلى الساحر ..
وبدأ هذا الغلام يأتي الساحر في الصباح ويتعلم منه السحر ..
ويعود لأهله في المساء ..
ومرت الأيام على ذلك ..
وفي يوم من الأيام .. مر الغلام في طريقه براهب .. يصلي ويتعبد .. ويركع ويسجد ..
فقعد إليه وسمع كلامه وقراءته .. فأعجبه .. وسأله : ما تعبد ..
قال : أعبدُ الله ؟
قال الغلام : الله .. الملك ..
قال الراهب : لا .. بل ربي وربك ورب الملك ..
ثم بين الراهب الدين للغلام ودعاه إليه .. فآمن بالله وحده ..
وصار كلما ذهب إلى الساحر أو رجع من عنده .. جلس إلى الراهب فتعلم منه ..
وأحيانا يطول جلوسه عنده فيتأخر على الساحر فيضربه .. وأحياناً يضربه أهله ..
فلما كثر الأذى عليه .. شكا ذلك إلى الراهب .. فقال له الراهب :
إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي .. أي أخروني لحاجة لهم ..
وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ..
ومرت الأيام على الغلام ..
وهو في كل يوم يتلقى دروساً في السحر .. ودروساً في الدين ..
هذا يقول : ربك الله .. وذاك يقول : ربك الملك ..
فبينما هو كذلك .. إذ مر يوماً في طريق .. فإذا بدابة عظيمة قد جلست وسط الطريق .. وحبست الناس عن المسير ..
فلما رآها الغلام قال في نفسه :
اليوم أعلم .. الساحر أفضل ؟! أم الراهب أفضل ؟!
ثم أخذ حجراً من الأرض فقال :
اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر .. فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس ..
ثم رماها بالحجر .. فقتلها ..
ففزع الناس واضطربوا .. وتلفتوا وهم يتساءلون :
من الذي قتل الدابة .. من الذي قتل الدابة ..
فجعل بعضهم يشير إلى الغلام .. وبعضهم ينظر إليه مندهشاً .. وصاروا بين مصدق ومكذب ..
فلما رأوا أنه قتلها بحجر صغير ..
تفرقوا وهم يقولون : لقد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد ..
ثم انتشر أمر الغلام .. وذاع صيته بين الأنام .. وصارت قصته على كل لسان ..
يتحدث الناس بخبره .. ويعجبون من أمره ..
فذهب الغلام إلى الراهب فأخبره الخبر ..
فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني .. قد بلغ من أمرك ما أرى ..
وإنك ستبتلى .. فإن ابتليت فلا تدل علي ..
فذهب من عنده الغلام .. وكلمات الراهب تتردد في أذنه .. إنك ستبتلى .. إنك ستبتلى ..
ومضى الغلام .. وبدأ الناس إليه يتوافدون .. ومنه يعجبون ..
ثم أكرمه الله تعالى .. فصار يبرئ الأكمه .. والأبرص ..
ويداوى الناس من سائر الأدواء ..
حتى جعل الناس من كل مكان يقبلون إليه .. ويجلسون بين يديه ..
وهو يدعوهم إلى التوحيد .. وعبادة العزيز المجيد ..
وبدأ المهتدون يتزايدون .. والكفار يتناقصون .. والمرضى يقلّون ..
وصار الناس بأخباره يتحدثون .. وعن قدراته يتساءلون ..
حتى مرت الأيام .. والناس في أخبار الغلام ..
فسمع به جليس للملك .. كان قد عمي ..
فذهب سريعاً إلى دار الغلام .. معه هدايا كثيرة ..
فلما دخل على الغلام ..أقبل عليه .. ووضع الهدايا والأموال بين يديه ..
ثم قال له بإغراء ..
ما هاهنا لك أجمع .. إن أنت شفيتنى .. وجعل يشير بيده جهة الذهب والأموال ..
فلما رأى الغلام هذا الوزير بين يديه ..
علم أنها فرصة عظيمة أقبلت إليه ..
للدعوة إلى الكريم المتعال .. فما التفت إلى الأموال .. ولا هاب كثرة الرجال ..
وإنما أقبل على الرجل إقبال الابن الشفيق .. والطبيب الرفيق ..
وقال له مبادراً : إني لا أشفى أحداً .. إنما يشفى الله تعالى ..
فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك ..
فسكت جليس الملك قليلاً .. ثم تفكر في دينه الذي عاش عليه ..
فإذا هو يعبد ملكاً بشراً .. لا يملك نفعاً ولا ضُراً ..
فدخل إلى قلبه الإيمان .. واشتاق للتعبد الرحمن ..
فآمن بالله ووحد .. فشفاه العظيم الأوحد .. ورد عليه بصره .. وشرح له صدره .. وعظم له أجره ..
فخرج الوزير فرحاً مستبشراً .. يسمع الناس ويرى ..
فلما أصبح .. أتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ..
فلما رآه الملك مبصراً .. تعجّب !! وقال له مبادراً : من رد عليك بصرك ؟!!
فقال المؤمن الموحّد : ربي ..
فقال الملك الغبي : أنا ..
قال : لا ..!!
قال : أولك رب غيري ؟
قال : ربي وربك الله ..
فغضب الملك وأزبد .. وصاح وتوعّد ..
ثم أمر بالوزير .. فشدد عليه العذاب .. ولم يزل يضرب ويهان ..
حتى دلَّ على الغلام .. فجيء بالغلام ..
فلما رآه الملك .. عرفه .. فهذا تلميذ الساحر ..
فتلطف معه وقال له : أي بنيَّ .. قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل .. وتفعل ..
فقال الغلام : إني لا أشفى أحداً .. إنما يشفى الله تعالى ..
فاضطرب الملك .. وسأل الغلام من الذي علمك هذا الدين .. فأبى أن يخبره .. خوفاً على الراهب ..
فأمر هذا الطاغية بالغلام .. فلم يزل يهان ويضرب .. ويبتلى ويعذب ..
وهو غلام صغير .. ما رحموا صغر سنه .. ولا ضعف جسده .. ولا قلة احتماله ..
وهو يحاول التصبر فلا يستطيع ..
حتى عظمت بلواه .. وانهارت قواه .. فدلهم على الراهب ..
فانطلق أعوان الطغيان .. إلى عابد الواحد المنان ..
فاقتحموا عليه صومعته .. وقطعوا خشوعه وخشيته ..
ثم استاقوه أمامهم .. إلى رأس كفرهم ..
حتى دخلوا به على الملك ..
فأوقفه بين يديه .. ثم أقبل عليه .. وقال : ارجع عن دينك ..
قال : لا .. وأبى .. فعذبه وضربه .. وهو ثابت على عبادة الرحمن .. كافر بأعوان الشيطان ..
وهم وإن عذبوا جسده .. فإن الله قد وعده .. يتلقاه بالغفران .. ويسكنه الجنان ..
فلما رأوا ثباته .. اجتمع عليه الجنود .. هذا يضربه بسوط .. وذاك يطعنه بخنجر .. والثالث يقيد يديه .. والرابع يجلد قدميه ..
شيخ قد كبرت سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه .. وتراكم همه ..
وهم يزيدون في العذاب .. وهو يتلذذ بعظيم الأجر والاحتساب ..
فلما رأى الملك ذلك ..
أمر به فأوقف بين يديه ..
ثم دعا بالمنشار .. فوضع المنشار في مفرق رأسه .. فشقه نصفين حتى وقع شقاه ..
فاضطرب الناس وفزعوا ..
وجليس الملك والغلام .. ينظران إلى الراهب .. قد تمزق قطعاً وأشلاء .. تسيل منه الدماء .. وقد صعدت روحه إلى السماء ..
ثم التفت الملك إلى الوزير .. وصاح به : ارجع عن دينك .. فأبى ..
فأمسكه الجنود .. ووضع المنشار في مفرق رأسه .. وهو ثابت ثبات الجبال .. الجنة تلوح أمام ناظريه .. والأنهار تجري بين يديه ..
فلم يزل المنشار يشق رأسه .. ووجهه .. وفمه وأنفه .. ويقطع جسده .. وهو يضطرب ويئن ..
حتى سالت دماؤه .. وتمزقت أشلاؤه .. حتى وقع شقاه ..
والغلام ينظر إليه ..
فلما رأى الملك السفاح .. الدماء والأشلاء بين يديه ..
جرَّ إليه الغلام .. وصاح به : ارجع عن دينك .. فأبى .. وهو ينتظر المنشار أن يشقه نصفين ..
لكن الملك .. كان يرى أن هذا الغلام صغير .. يمكن أن يغرى فيرجع عن دينه ..
فأراد أن يطول الطريق إلى موته ..
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ..
فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته ..
فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ..
والملك يظن أن الغلام سيتراجع أثناء الطريق ..
فذهبوا به .. حتى وصلوا إلى الجبل .. فأخذوا يدفعونه أمامهم .. يصعدون به معهم ..
حتى إذا وصلوا ذروته .. قالوا له : ارجع عن دينك .. وإلا طرحناك ..
فتلفت الغلام حوله .. فإذا جبال سوداء .. وصخور صماء ..
وإذا الموت يلوح بين عينيه ..
عندها رفع بصره إلى السماء .. وهز أبوابها بالدعاء ..
وقال : اللهم أكفنيهم بما شئت ..
فما هو إلا أن دعا .. وتضرع والتجا ..
حتى سمعه من يجيب المضطر إذا دعاه .. ويكشف سوءه وبلواه ..
نعم .. سمعه من كان نعم المجيب لنوح لما دعاه .. وبرحمته كشف الضر عن يونس إذ ناداه ..
سمعه من كشف الضر عن أيوب .. ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب ..
فأمر الله حجارة الجبل فتحركت .. وأمر الصخور فانتفضت .. وارتجف الجبل بإذن الله ..
فسقط أولئك الجنود .. من على ذروة الجبل ..
وثبت الله قدمي الغلام .. وحفظه الملك العلام .. حتى نزل من على الجبل ..
وجاء يمشى إلى الملك .. فلما دخل عليه . وقف بين يديه ..
فانتفض الملك .. وتعجب أين الحرس والجنود ..
ثم صاح بالغلام .. وقال : ما فعل أصحابك ؟!!
فقال الغلام : كفانيهم الله ..
فتطاول الملك بطغيانه .. وصار عبداً لشيطانه ..
وأمر بالغلام .. فأمسكه جند آخرون ..
فقال لهم الملك : اذهبوا به .. فاحملوه في قرقور .. سفينةٍ صغيرة .. فتوسطوا به البحر .. فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ..
فذهبوا به يسوقونه أمامهم .. فلما وصلوا إلى البحر .. ركبوا في سفينتهم .. والغلام الصغير بينهم ..
حتى إذا توسطوا به لجة البحر .. واشتدت الرياح .. وتلاطمت الأمواج ..
قالوا له : ارجع عن دينك .. وإلا قذفناك ..
فرفع الغلام بصره إلى السماء .. واستغاث بكاشف الضر والبلاء ..
الذي من لجأ إليه كفاه .. ومن فر إليه قربه وأدناه ..
قال الغلام : اللهم أكفنيهم بما شئت ..
فإذا بالدعاء .. يصل إلى الذي لا رادّ لأمره .. ولا معقب لحكمه .. ولا منازع في ملكه ..
أزِمة الأمور بيده .. والكون تحت قضائه وقدره ..
يسمع دعاء الداعين .. ويجيب دعوة المضطرين ..
فأمر الله السفينة فانكفأت فوق الماء .. وبدأ الصياح والبلاء ..
فغرق الجنود .. ونجى الغلام ..
وجاء يمشى إلى الملك ..
فلما رآه الملك .. اشتد فزعه .. واضطرب أمره .. وأخذ ينتفض ويقول :
ما فعل أصحابك ؟!!
فقال : كفانيهم الله ..
فأسقط في يد الملك وأحاط به البلاء .. وعلم أنه لا طاقة له بغلام ينصر بجند الأرض السماء ..
وبقي الملك متحيراً ..
فقال له الغلام .. إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ..
قال : وما هو ؟!
قال : تجمع الناس في صعيد واحد .. أرض واحدة .. وتربطني على جذع نخلة ..
ثم خذ سهماً من كنانتي .. من سهامي لا من سهامك .. ثم ضع السهم في كبد القوس ..
ثم قل : باسم الله رب الغلام .. ثم ارمني .. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ..
فوافق ذلك الملك الأحمق ..
وجمع الناس في صعيد واحد .. وربط الغلام أمامهم على جذع نخلة ..
فلما رآه الناس مربوطاً عرفوه ..
فهو الذي يشفي بإذن الله أسقامهم .. ويداوي مرضاهم .. ويعين ضعفاءهم .. ويرحم جوعاهم ..
ثم التفتوا إلى الملك الطاغية ..
فإذا هو قد جمع حوله جنده .. واغتر بقوته .. وتطاول بسطوته ..
ثم أقبل الملك على سهام الغلام ..
فأخذ منها سهماً .. ثم وضع السهم في كبد القوس .. ثم صاح قائلاً ..
باسم الله رب الغلام .. ثم رماه ..
فوقع السهم في صدغ الغلام .. بين عينه وأذنه ..
فوضع الغلام يده في صدغه .. في موضع السهم ومات ..
ففرح الملك .. وظن أنه قد انتهى من أمره .. وذهب إلى قصره وكفره ..
أما الناس .. فإنهم لما رأوا موت الغلام .. علموا أن الله وحده هم الضار النافع .. والخافض الرافع .. وأن الملك بشر من البشر .. لا يملك النفع والضر ..
فقال الناس : آمنا برب الغلام .. آمنا برب الغلام .. آمنا برب الغلام ..
فتسابق أعوان الملك إليه .. وتزاحموا بين يديه .. وقالوا .. أرأيت ما كنت تحذر ؟! قد والله نزل بك حذرك ..
أجزعت أن آمن ثلاثة .. فقد آمن الناس ..
فغضب الملك .. وأمر بالأخاديد والحفر العظيمة .. فحفرت في الطرقات .. ثم أشعلت فيها النيران ..
وجُمع الناس حولها .. وقيل لهم :
من لم يرجع عن دينه أقحمناه فيها .. فجعل المؤمنون يتساقطون في النار .. رجالاً ونساءً .. كباراً وصغاراً .. شيباً وشباناً ..
حتى جاءت امرأة .. ومعها صبي لها صغير .. ترضعه ..
فقيل لها .. ارجعي عن دينك وإلا قذفناك في النار ..
فنظرت إلى حفر النيران ..
فرأت الناس تذوب فيها أجسادهم .. وتتفجر رؤوسهم .. وتسيل دماؤهم ..
فخفضت رأسها تنظر إلى صغيرها .. فإذا فمه على ثديها .. يرضع من لبنها ..
فتقاعست أن تقع في النار .. وكادت أن تطاوع الكفار ..
فأنطق الله ولدها .. فقال لها .. يا أماه .. اصبري فإنك على الحق ..
فقذفت نفسها في النار ..
ومات المؤمنون .. والملك وأعوانه ينظرون ..
لكن الله فوقهم يرقب .. والملائكة تشهد وتكتب .. والله يخبر بسخطه ويغضب ..
( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) ..
* * * * * * * * * *
نعم .. ذلك الفوز الكبير ..
ولئن فرح الملك وأعوانه ساعة .. فإن المؤمنين سيفرحون ساعات ..
وليس انتصاراً للكافرين .. أن يقتل المسلمون .. ولا أن يسجن المصلحون ..
وإنما النصر أن تبقى المبادئُ حيةً تُتبع .. ورايةُ الدين ترفع ..
وليمت الراهب والغلام .. ولتحرق الأم والأيتام ..
ولكن .. لتعلم الأجيال بعد ذلك الغلام .. أن هذا الدين عزيز .. تسكب لعزه الدماء .. وتتناثر الأشلاء ..
وتسحق لنصرته الجماجم .. ويكتب تاريخه بالدم ..
ولإن كان الكافرون اليوم يتفاخرون .. بجنود لهم يموتون .. لنصرة تراب أوطان .. أو عز وسلطان ..
أو يدفعونهم إلى ساحات القتال .. بعطايا وأموال ..
فإننا نفخر بقوم يموتون اليوم .. وتطير أرواحهم غداً في أجواف طير خضر ..
تتنعم في الجنة كيف شاءت ..
وما ضر الراهب ولا الغلام .. ولا الوزير والأيتام ..
أن صبروا على شدة القتل ساعة .. إذا كانوا اليوم .. قد حطوا رحالهم في الجنات .. وذبهت الأنات .. وحلت الخيرات ..
وكفرت السيئات .. وانقضت الحسرات .. ونسيت الكربات ..
برب يفرح بلقياهم ويفرحون .. ويعطيهم ما يؤملون ..
ويشفي صدورهم .. بالنظر إلى الكافرين يتعذبون .. وفي النيران يتقلبون ..
( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ..
* * * * * * * * * *
نعم والله .. قد ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ..
أما الغلام فيتنعم اليوم .. وقد مات في الدنيا .. ومات المؤمنون ..
يموتون .. والله قادر على نصرهم في طرفة عين ؟!
يموت الغلام .. الذي دكت من أجله الجبال .. وثارت لنصره البحار ..
نعم ..
وربك يفعل ما يشاء ويختار ..
ينصر عباده متى شاء .. ويؤخر النصر إذا شاء .. وله في كل ذلك حكمة وغاية ..
يخرج النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة .. فينام تحت شجرة .. فما يوقظه إلا صياح كافر .. قد رفع عليه السيف وهو يقول : من يمنعك مني .. فيقول : يمنعني منك .. الله .. فيسقط السيف من يد الكافر .. بل ويخر الكافر صريعاً .. ويمنعه الله من الموت ..
ويذهب يوماً إلى يهود خيبر .. فيجلس تحت جدار .. فيعزمون على قتله .. فيصعد أحدهم فوق الجدار .. يحمل رحى عظيمة .. فلما كاد أن يلقيها .. يأمر الله نبيه فيقوم من مكانه .. وتسقط الرحى على الأرض .. ويمنعه الله من الموت ..
ومع ذلك .. تضع له اليهودية سماً في شاة .. فلا يُنبَّئ بخبر السم حتى نهش منها نهشة .. فيصيبه سمها .. فلم يزل يعاوده أثر السم حتى مات بسببه ..
وهذا حال أنبياء الله ورسله .. منهم من يعجل له النصر .. ومنهم من يتأخر عنه ..
إبراهيم عليه السلام .. يلقى في النار .. فيقول الله لها كوني برداً وسلاماً على إبراهيم .. ويلبث فيها أياماً حتى خمدت .. وخرج يمشي ليس به بأس .. ويمنعه الله من الموت ..
ونوح عليه السلام .. يكيد له قومه .. فينادي ربه أني مغلوب فانتصر .. فإذا بهذه الكلمات الثلاث .. تهز أبواب السماء فتتدفق بماء منهمر .. وتهز طبقات الأرض فتتفجر عيوناً .. ويهلك المكذبون .. ويمنع الله نبيه عليه السلام ..
ولوط عليه السلام ينادي .. فينجيه الله من القرية التي كانت تعمل الخبائث .. وينجي الله نبيه عليه السلام ..
وانظر إن شئت إلى شعيب .. وإن شئت فانظر إلى هود .. وطالع حال صالح وموسى .. عليهم السلام ..
عجائبُ في نصر الله لهم ..
ومع ذلك .. يُقتل زكريا عليه السلام .. ويذبح يحي .. ويؤذى عيسى حتى رُفِع ..
وله سبحانه الحكمة البالغة .. في تقدير النصر والهزيمة ..
والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذي سنة الرحمن
ولا يضيع الله أجر المحسنين .. سواء ظهر نصرهم في الدنيا أو لم يظهر .. فإنما عليك إلا البلاغ والله بصير بالعباد ..
لكن اليقين عندنا الذي لا يخالطه شك .. أن الله كما نصر محمداً .. وكشف الكفر عن البيت العتيق .. فسوف ينصر أتباعه إلى يوم الدين .. إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ..
فلو أبصرت عيناك وجه محمد ورأيت ما يجري بدار الأرقم
ورأيت مكة وهي تغسل وجهها بالنور من آثار ليل مظلم
وفتحت نافذة لتسمع ما تلا جبريل من آي الكتاب المحكم
ورأيت ميزان العدالة قائماً يُقتص فيه ضحىً من ابن الأيهم
ورأيت كيف غدا بلال سيداً ومضى الطغاة إلى شفير جهنم
لغسلت سيف الحر من صدأ الثرى وعزفت في الميدان ركض الأدهم
وبذلت هذي النفس حتى ينجلي عن قبح وجه الخائن المتلثم
وأرحتنا من كل صاحب زلة يوحي إليك بقصة ابني ضمضم
كم فارس من قومنا لما رأى لهب الرصاص أدار مقلة غيلم
ترك الضحايا خلفه وسعى إلى قبو ليغمض مقلتيه ويحتمي!!
* * * * * * * * * *
ولكن لا يزال للدين فوارس .. يغشون الوغى ويعفون عند المغنم ..
يصاب سعد بن معاذ في الخندق .. فيموت ..
فينزل سبعون ألف ملك من السماء .. يتقدمهم جبريل إلى خاتم الأنبياء ..
فيسرع جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام .. فيقول : يا محمد .. من هذا من أصحابك الذي مات فاهتز لموته عرش الرحمن .. وفتحت له أبواب السماء ..
فيقوم النبي عليه الصلاة والسلام مسرعاً .. ينظر من الذي مات .. يتفقد أصحابه .. أين أبو بكر ؟ عمر ؟ عثمان .. علي .. طلحة ..
فلما خرج فإذا سعد بن معاذ قد مات ..
رجل قد خدم الدين .. وجاهد لرب العالمين ..
فلما مات .. ما فقدته زوجة وولد ودابة ..
وإنما اهتز لموته عرش الرحمن ..
وفقده مسجده ومحرابه .. وسيفه وحرابه ..
بل بكت لموته الأرض والسماء .. وعم الناسَ البكاء ..
لأنه ما عاش لنفسه .. ولا لبيته وفلسه .. وإنما عاش لينصر هذا الدين .. أنفق لأجله ماله .. وفارق داره عياله ..
حتى مات .. فاستبشر أهل السماء بقدومه ..
* * * * * * * * * *
نعم سعد يموت .. فيهتز لموته عرش الرحمن ..
وحنظلة يموت .. فتغسله ملائكة المنان ..
وعاصم بن ثابت يموت .. فيرسل الله إليه جنداً تحمي جسده ..
أما عبد الله أبو جابر فيموت .. في معركة أحد .. ويترك سبع بنيات أيتام ..
فيقبل إليه ولده جابر .. وقد غطوه بثوب .. فجعل يكشف عن وجهه ويبكي .. فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم .. فقال : تبكيه أو لا تبكيه .. ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه ..
ثم قال صلى الله عليه وسلم .. يا جابر .. ألا أخبرك .. إن الله كلم أباك كفاحاً .. فقال : يا عبدي سلني أعطك .. قال :
أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانياً .. فقال : إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون ..
قال : يا رب فأبلغ من ورائي .. فأنزل الله ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ..
ويقرأ الصالحون من بعده هذه الآيات .. فيشتاقون للقاء إخوانهم في الجنات .. فيخوضون الطريق إليها غير مبالين بقلة العدد .. وضعف العدة .. وندرة المناصر ..
أنس بن النضر .. في معركة أحد لما قتِّل المسلمون .. وظهر الكافرون .. وأشيع أن النبي عليه الصلاة والسلام قتل .. واضطرب الناس ..
مرّ أنس بن النضر .. بعمر وطلحة ونفر من الصحابة .. قد تجنبوا ساحة القتال .. وألقوا بسلاحهم ..
فقال : ما يجلسكم ؟
قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فصاح بهم وقال : فما تضنون بالحياة بعد ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ثم رفع بصره إلى السماء وقال : اللهم إني أعتذر إليك مما فعل هؤلاء .. وأبرأ إليك مما يفعل أولئك ..
ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل .. فوجدوه بين القتلى .. في جسده أكثرُ من سبعين ضربة .. قد مزق جسده .. واغبرّ وجهه .. وسالت دماؤه .. وما عرفته إلا أخته .. بعلامة في طرف أصبعه ..
* * * * * * * * * *
وكما أن في الرجال أبطال .. يصبرون على القيد والأغلال .. والرمي بالنبال ..
ففي النساء كذلك .. صالحات قانتات .. منيبات صابرات .. علقن أنفسهن بالجنات .. وأحبهن رب الأرض والسموات ..
منهن أم عمار بن ياسر .. سميةَ بنتِ خياط ..
لها خبر عجب ..
كانت أمة مملوكة لأبي جهل .. فلما جاء الله بالإسلام .. أسلمت هي وزوجها وولدها ..
فجعل أبو جهل يفتنهم .. ويعذبهم .. ويربطهم في الشمس حتى يشرفوا على الهلاك حراً وعطشاً ..
فكان صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون .. ودماؤهم تسيل على أجسادهم .. وقد تشققت من العطش شفاههم .. وتقرحت من السياط جلودهم .. وحر الشمس يصهرهم من فوقهم ..
فيتألم صلى الله عليه وسلم لحالهم .. ويقول : صبراً آل ياسر .. صبراً آل ياسر .. فإن موعدكم الجنة ..
فتلامس هذه الكلمات أسماعهم .. فترقص أفئدتهم .. وتطير قلوبهم .. فرحاً بهذه البشرى ..
وفجأة .. إذا بفرعون هذه الأمة .. أبي جهل يأتيهم .. فيزداد غيظه عليهم .. فيسومهم عذاباً ..
ويقول : سبوا محمداً وربه .. فلا يزدادون إلا ثباتاً وصبراً .. عندها يندفع الخبيث إلى سمية .. ثم يستل حربته .. ويطعن بها في فرجها .. فتتفجر دماؤها .. ويتناثر لحمها .. فتصيح وتستغيث .. وزوجها وولدها على جانبيها .. مربوطان يلتفتان إليها ..
وأبو جهل يسب ويكفر .. وهي تحتضر وتكبر .. فلم يزل يقطع جسدها المتهالك بحربته .. حتى تقطعت أشلاءً .. وماتت رضي الله عنها ..
نعم .. ماتت .. فلله درها ما أحسن مشهد موتها ..
ماتت .. وقد أرضت ربها .. وثبتت على دينها ..
ماتت .. ولم تعبأ بجلد جلاد .. ولا إغراء فساد ..
* * * * * * * * * *
أما أم شريك غزيةُ الأنصارية ..
أسلمت مع أول من أسلم في مكة البلد الأمين .. فلما رأت تمكن الكافرين .. وضعف المؤمنين ..
حملت هم الدعوة إلى الدين .. فقوي إيمانها .. وارتفع شأن ربها عندها ..
ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن إلى الإسلام .. وتحذرهن من عبادة ألأصنام ..
حتى ظهر أمرها لكفار مكة .. فاشتد غضبهم عليها .. ولم تكن قرشية يمنعها قومها ..
فأخذها الكفار وقالوا : لولا أن قومك حلفاء لنا لفعلنا بك وفعلنا .. لكنا نخرجك من مكة إلى قومك ..
فتلتلوها .. ثم حملوها على بعير .. ولم يجعلوها تحتها رحلاً .. ولا كساءً .. تعذيباً لها ..
ثم ساروا بها ثلاثة أيام .. لا يطعمونها ولا يسقونها .. حتى كادت أن تهلك ظمئاً وجوعاً ..
وكانوا من حقدهم عليها .. إذا نزلوا منزلاً أوثقوها .. ثم ألقوها تحت حر الشمس .. واستظلوا هم تحت الشجر ..
فبينما هم في طريقهم .. نزلوا منزلاً .. وأنزلوها من على البعير .. وأثقوها في الشمس ..
فاستسقتهم فلم يسقوها ..
فبينما هي تتلمظ عطشاً .. إذ بشيء بارد على صدرها .. فتناولته بيدها فإذا هو دلو من ماء ..
فشربت منه قليلاً .. ثم نزع منها فرفع .. ثم عاد فتناولته فشربت منه ثم رفع .. ثم عاد فتناولته ثم رفع مراراً ..
فشربت حتى رويت .. ثم أفاضت منه على جسدها وثيابها ..
فلما استيقظ الكفار .. وأرادوا الارتحال .. أقبلوا إليها .. فإذا هم بأثر الماء على جسدها وثيابها ..
ورأوها في هيئة حسنة .. فعجبوا .. كيف وصلت إلى الماء وهي مقيدة ..
فقالوا لها : حللت قيودك .. فأخذت سقائنا فشربت منه ؟
قلت : لا والله .. ولكنه نزل علي دلو من السماء فشربت حتى رويت ..
فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كانت صادقة لدينها خير من ديننا ..
فتفقدوا قربهم وأسقيتهم .. فوجدوها كما تركوها .. فأسلموا عند ذلك .. كلهم .. وأطلقوها من عقالها وأحسنوا إليها ..
أسلموا كلهم بسبب صبرها وثباتها .. وتأتي أم شريك يوم القيامة وفي صحيفتها .. رجال ونساء .. أسلموا على يدها ..
* * * * * * * * * *
نعم .. أقوام هانت عليهم أنفسهم في سبيل الله .. فلم يلتفتوا إلى أجسادهم .. وإنما اهتموا بأرواحهم ..
وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مرادها الأجسام
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وارتدت قبائل من العرب عن الإسلام ..
وظهر أمر ميلمة الكذاب .. وكثر أتباعه ..
انطلق جيش المسلمين لقتال مسيلمة في اليمامة في نجد من جزيرة العرب ..
مضى الجيش من المدينة إلى اليمامة .. فقطع أكثر من ألف كيل حتى وصل اليمامة ..
فإذا مسيلمة قد جمع أكثر من مائة ألف لقتال المسلمين ..
فما كاد المسلمون يستقرون .. حتى قام مسيلمة خطيباً في قومه فقال : اليوم يوم الغيرة .. فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم .. ولم يزل يحثهم .. حتى ثاروا ..
وابتدأ القتال .. وتنازل الأبطال ..
وقعقعت السيوف .. وتتابعت الـحُتوف ..
ورميت الرماح .. وارتفع الصياح ..
وغبرت خيل الرحمن .. وعلت أصوات الفرسان .. وفتحت أبواب الجنان .. وطارت أرواح الشهداء .. واشتاق الأولياء ..
وكان من أول من أصيب أبو عقيل الأنصاري ..أصابه في كتفه الأيسر سهم شل حركته .. فأخرج السهم .. فجرّوه إلى الخيام ..
فلما حمي القتال .. وظهر قوم مسيلمة .. وبدأ بعض المسلمين يفرون ..
وأبو عقيل على فراشه لا يقوى على الحركة ..
سمع صائحاً يقول : يا معاشر الأنصار ! الله الله والكرة على عدوكم ..
قال عبد الله بن عمر : فنهض أبو عقيل .. يتكئ على يمينه .. ويريد سيفه ..
فقلت : ما تريد ؟ ما فيك قتال ..
قال : قد نوه المنادي باسمي ..
قلت له : إنما يقول : يا للأنصار .. و لا يعني الجرحى ..
قال أبو عقيل : أنا من الأنصار وأنا أجيبه والله ولو حبواً ..
قال ابن عمر : فتحزم أبو عقيل .. وأخذ السيف بيده اليمنى ..
ثم خرج وهو ينادي : يا للأنصار ! كرةٌ كيوم حنين .. فاجتمِعوا رحمكم الله .. وجعل يصيح بهم .. ويضرب من رأى من الكفار بسيفه ..
قال ابن عمر : فنظرت إلى أبي عقيل .. وقد قطعت يده المجروحة من المنكب .. فوقعت إلى الأرض .. وجراحه تنزف ..
فلما انتهى القتال .. أقبلت ألتمسه .. فإذا هو صريع بآخر رمق ..
فقلت : أبا عقيل .. فقال ـ بلسان ملتاث ـ: لبيك لمن الدّبَرة ؟
قلت : أبشر .. قد قتل عدو الله ..
فرفع إصبعه إلى السماء وقال : الحمد لله .. ثم مات ..
وهزم الله قوم مسيلمة .. وهربوا وأخذوا يتفرقون في الشعاب ..
ولم يزل الصحابة يسوقونهم أمامهم .. ويضعون السيوف في رقابهم .. وهم مضطربون لا يدرون إلى أين يلجئون ..
حتى وقف حكم بن الطفيل من قوم مسيلمة ثم صاح بقومه :
تحصنوا بالحديقة ..
فتسابقوا إليها .. وقام هو على مرتفع يناديهم .. ويشير لهم .. فرماه عبد الله بن أبي بكر بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله ..
ودخل جيش مسيلمة الحديقة .. وكانت حديقة عظيمة .. طويلةٌ جدرانها .. محصنةٌ أطرافها ..
وأغلقوا بابها .. فجعل الصحابة يطوفون بجدرانها .. ويدفعون أبوابها ..
وقد اشتد حنقهم على الكفار ..
فأقبل البراء بن مالك .. هل رأيت البراء بن مالك ..؟؟ لم تره !!
كان نحيل الجسم .. دقيق الساقين .. صغير اليدين .. قصير القامة .. لكنه كان بطلاً قتل مائة مشرك مبارزة وحده .. فضلاً عمن قتلهم أثناء المعارك ..
أخذ البراء يطوف بالحصن كالأسد .. يزار من حرّ ما يجد .. كيف ينجو الكفار بهذه السهولة .. ثم أخذ ينظر إلى جدار الحديقة فإذا هو رفيع ..
فأقبل إلى باب الحديقة فإذا عنده عدد من الأصحاب ..
فقال لهم : يا معشر المسلمين .. احملوني في ترس .. وألقوني عليهم في الحديقة ..
فعجبوا .. كيف نلقيك وأنت واحد وهم مائة ألف ..
فلا زال بهم .. حتى حملوه في ترس .. ورفعوها بالرماح .. حتى بلغ أعلى الجدار .. فقفز وحده داخل الحديقة ..
فلم يرُعِ الكفار .. إلا وهو بين أيديهم .. فاجتمعوا عليه .. هذا يضربه بسيف .. وذاك يطعنه بخنجر .. والثالث يضربه بعصا ..
وهو يتقي هذا بترسه .. والآخرَ بسيفه .. ويدفع الثالث بيده .. ويزحف جهة الباب ليفتح للمسلمين .. ودماؤه تسيل .. ولحمه يتساقط ..
حتى اتكأ على الباب ففتحه .. وتدافع المسلمون كالسيل إلى الحديقة .. واشتد فيها القتال .. حتى سميت بحديقة الموت ..
وهزم الله جند الكافرين .. أما البراء فقد مضى شهيداً مع المؤمنين ..
* * * * * * * * *
فسبحان من أغرى المنايا بأهله * كأن لها ثأراً .. وليس لها ثأر
ليختار من يختارُ منهم ويصطفي * له الحكمة العُلياْ .. له النهي والأمر
دعتهم ثغور العز من كل موطن * فطاروا سراعاً ما لهم دونها صبر
نفى عنهمُ همًّ التنعم هـمُّهم * فأبدانهم شعث .. وأثوابهم غُبْر
نحافاً وسمراً كالرماح تراهمُ * وتحمد عند الطعن شُعثَ القنا السمر
مضوا يشربون الموت كأساً شهية * ولو أن طعم الموت مستثقل مر
ولكنَّ في ذات الإله ودينه * لمن أُشْرب الإيمانَ .. يُسْتعذب الصِّبر
أبوا أن يعيشوا كالعبيد بعالم * تحَكمَ فيه الظلم .. واستحكم الكفر
ففي الأرض منأى للكريم عن الأذى * وفي الموت منأى عنه إن لزم الأمر
فما عاش من عاش الحياة بذلة * ولو طال ذاك العيش ما بقي الدهر
* * * * * * * * * *
وإن شئت أن تنظر إلى البطولة في عزها .. والعزة في بطولتها ..
فارجع إلى خلافة عمر بن الخطاب .. ثم اخرج مع الجيش الغازي إلى الشام .. سبعةُ آلاف بطل يتقدمهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ..
مضوا يسيرون على الحصى .. منهم الراكب على فرس ومنهم الراكب على بعير .. ومنهم من يمشي على قدميه ..
فلما وصلوا إلى ديار الفرس .. فإذا الفرس ينتظرونهم بجيش أكثر من ثمانين ألفاً .. معهم أحدث آلات القتال ..
فلما نزل سعد بجيشه .. أرسل بعض أصحابه إلى ملكهم العظيم كسرى يدعونه إلى الإسلام ..
فلما دخلوا عليه .. أجلسهم بين يديه .. وكان متكبراً مغتراً بملكه ..
فجعل ينظر إليهم بطَرف عينه .. ويشير إلى ملابسهم .. ويستهزئ بهم .. ويقول : ما تسمون هذا ؟ ويشير إلى أحذيتهم .. فيقولون : نعال .. فيقول : وهذا ؟ فيقولون : رداء .. ثم جعل يشير إلى عصيهم .. ويقول : وهذا .. فيقولون : سياط ..
ثم اتكأ وقال : ما الذي أقدمكم هذه البلاد ؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا ؟
إني لا أعلم في الأرض أمةً كانت أشقى .. ولا أقل عدداً .. ولا أسوأ ذات بينٍ .. منكم .. قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم ..
فإن كان الجوع دعاكم .. فرضنا لكم قوتاً وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم ..
سكت القوم والتفت بعضهم إلى بعض ..
عندها تكلم البطل .. قام المغيرة بن شعبة .. فقال : أيها الملك .. إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً ..
فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أحد أسوأَ حالاً منا ..
وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع .. كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات .. ونرى ذلك طعامَنا ..
وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض .. ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ..
ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً ..
وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حيةٌ كراهية أن تأكل من طعامه ..
حتى بعث الله إلينا رجلاً فدعانا إلى الله .. فنشهد أنه جاء بالحق من عند الحق ..
فنحن ندعوك إلى دينه .. فاختر إن شئت :
الجزيةَ وأنت صاغر .. وإن شئت فالسيف .. أو تسلمُ فتنجي نفسك ..
فعضب كسرى .. وقال : ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستمَ حتى يدفنَه وجندَه في خندق القادسية ..
فلما تواجه الجيشان بعث رستم إلى سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالمٍ يسأله ..
فبعث إليه ربعي بن عامر ..
فما وصل ربعي إلى إيوان رستم ..
جلس رستم على سرير من ذهب .. ولبس التاج ..
وأمر فزينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير ..
وأظهروا اليواقيتَ واللآلئَ الثمينة .. والزينةَ العظيمة ..
ثم أَذن لربعي ..
فدخل ربعي بثياب صفيقة .. وسيف قصير .. وفرس قصير .. ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط .. ثم نزل فربطها ببعض تلك الوسائد .. وأقبل يمشي إلى رستم .. وعليه سلاحه ودرعه .. وبيضته على رأسه ..
فقالوا له : ضع سلاحك .. فقال : إني لم آتكم .. وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت ..
فقال رستم : ائذنوا له .. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ..
فقال رستم : ما جاء بكم ؟
فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى رب العبادة ..
ومن ضيق الدنيا إلى سعتها .. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ..
فمن قبل رجعنا عنه .. ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله ..
قال : وما موعود الله ؟
قال : الجنة .. لمن مات .. والنصر لمن بقي ..
فقال رستم : هل لكم أن تؤخرونا حتى ننظر ؟
قال : نعم ! كم أحبَّ إليكم ؟ يوماً أو يومين ؟
قال : لا .. بل حتى نكاتب أهل رأينا ..
فقال : ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ..
ثم خرج ربعي ..
فالتفت رستم إلى أصحابه .. وقال : هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل ؟
فقالوا : معاذ الله أن تدع دينك إلى هذا الكلب .. أما ترى ثيابه ..
فقال : ويلكم لا تنظروا إلى الثياب .. وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ..
وتمضي الساعات .. ثم يبتدأ القتال ويهزم الله رستم وأصحابه ..
فروا فرارا ، يجمحون كأنهم * من الذعر فئران تملكها الذعر
إذا ما نزلنا ساحة الكفر في الوغى * تفشى هناك الموت وانتشر الذعر
فإن نحن نلنا ما نريد ونبتغي *فذاك .. وإلا كان في موتنا عذر
ويصطفي الله من المؤمنين شهداء .. ويورث الباقين أرض الكفار وديارهم وأموالهم ..
فسلوا فخامة كسرى عن كتائبنا وجيشه الضخمَ لما مُدَّت القضبُ
سرى يجر ذيول الخزي منـهزماً وكُسِّرت عنده التيجان والحجبُ
* * * * * * * * * *
بل كان الأبطال .. لا يكتفون بالاعتزاز بدينهم .. ولا ببذل أموالهم وأجسادهم .. بل كانوا ينظرون إلى كل ما يستطيعون تقديمه للدين فيقدمونه .. من خبرة ومال .. أو حنكة قتال .. أو عقل راجح ..
أول ما قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة .. كان أهلها أخلاطاً من يهود ومشركين .. ومسلمين .. فأراد صلى الله عليه وسلم أن يستصلح المدينة .. ويجمع أهلها على التوحيد ..
وكان كعب بن الأشرف رأساً من رؤوس اليهود يقف له في كل سبيل .. ويصد عن سبيل الله من آمن ..
بل كان يحرض على قتال المسلمين .. وينشد الأشعار .. ويندب من قتل من المشركين يوم بدر .. وكان شاعراً يشبب بنساء المسلمين .. ويهجو النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابَه ..
بل مضى إلى مكة .. يحرض قريشاً على قتال المسلمين .. وإيذاء المستضعفين ..
فسأله كفار قريش لما رأوه يهودياً من أهل الكتاب .. قالوا : يا كعب .. أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه .. ؟ فإنا نطعم الجزور الكوماء .. ونسقي اللبن على الماء .. ونطعم ما هبت الشمال .. فقال لهم: أنتم أهدى منهم سبيلاً ..
فأنزل الله: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً " .. ثم لم يزل يحرضهم .. حتى ما خرج من مكة .. إلا وقد أجمعوا أمرهم على غزو النبي عليه الصلاة والسلام ..
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .. قال لأصحابه يوماً :
من لكعب بن الأشرف .. فإنه قد آذى الله ورسوله ..
فابتدر محمد بن مسلمة وقال : أنا لك به يا رسول الله .. أنا أقتله ..
قال : فافعل إن قدرت على ذلك ..
فخرج محمد بن مسلمة .. ثم احتبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثلاثة أيام ..
وجعل لا يأكل ولا يشرب .. إلا ما يُعْلِق نفسَه ..
فذُكر حاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. فدعاه .. فقال : لم تركت الطعام والشراب ؟
فقال : يا رسول الله .. قلت لك قولاً لا أدري .. هل أَفِي لك به أم لا ..
قال : إنما عليك الجَهد ..
قال : يا رسول الله .. إنه لا بد لنا أن نقول له فيك شيئاً .. ليطمئن إلينا ..
قال : فقولوا ما بدا لكم .. فأنتم في حل من ذلك ..
فاجتمع محمد بن مسلمة وأبو نائلة وكان أخا كعب من الرضاعة .. وعزما على قتله ..
فذهب أبو نائلة إلى كعب .. فتحدث معه وتناشدا الشعر ثم قال :
يا كعب .. إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني ..
قال : أفعل ..
قال : كان قدوم هذا الرجلِ علينا بلاء ..
عادتنا العرب .. ورمتنا عن قوس واحدة .. وقطعت عنا السبيل .. حتى ضاع العيال .. وجهدت الأنفس .. وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا .. وإنه قد سألنا صدقة وعنَّانا .. ونحن لا نجد ما نأكل ولا ما يأكل أولادنا .. وإني قد أتيتك أستسلفك ..
فقال كعب : أنا ابن الأشرف ! أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلاّمة أن الأمر يصير إلى ما أقول .. وأيضا والله لتملنه ..
قال : إنا قد اتبعناه .. فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه .. وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين من تمر ..
فقال كعب : ما دام ليس معكم مال .. فارهنوني شيئاً يكون عندي حتى توْفُوني ..
قال : أيَّ شيء تريد ؟
قال : ارهنوني نساءكم ..
قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ..!!
قال : فارهنوني أبناءكم ..
قال : كيف نرهنك أبناءنا .. فيسب أحدهم .. فيقال : رُهن بوسق أو وسقين .. هذا عار علينا ..
ولكنا نرهنك السلاح ..
وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا به ..
فقال : إن في السلاح لوفاء ..
ثم واعده أن يأتيه ليلاً مع نفر يحملون معه التمر ..
فلما كان الليل أقبل أبو نائلة مع محمدِ بنِ مسلمة .. ورجلين ..
حتى انتهوا إلى حصنه .. فهتف به أبو نائلة .. يا أبا سعيد ..
فأجابه كعب .. ثم قفز من سريره لينزل إليه ..
فتعلقت به امرأته وقالت : أنت امرؤ محارَب .. وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة .. قال : إنه أخي أبو نائلة ..
فقالت : إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم ..
قال : إن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب .. ثم أقبل عليهم ..
فقال محمد بن مسلمة لأصحابه ..
إذا ما جاء فإني قابض بشعره لأشمه .. ثم أشِمُّكم .. ثم أشمه أخرى .. فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه ..
فلما وصل إليهم .. فإذا هو ينفح من ريح الطيب ..
فقال محمد بن مسلمة : ما رأيت كاليوم ريحاً ..
فقال كعب : عندي أعطرُ نساء العرب .. وأكملُ العرب ..
قال محمد : أتأذن لي أن أشم رأسك ؟
قال : نعم .. فشمَّه .. ثم قال : تأذن لأصحابي أن يشموا ..؟
قال : نعم ..
ثم مشى معهم قليلاً يتحدثون .. ثم قال محمد بن مسلمة : تأذن لي أن أشم أخرى ؟
قال : نعم .. فأدخل كلتا يديه في شعره .. وجرَّ رأسه إليه كأنه يشم .. فلما تمكن منه ..
صاح بأصحابه : اضربوا عدو الله !
فتسابقت إلى رقبته سيوفهم .. ومع شدة الظلام .. وتعدد السيوف .. وكثرة اضطرابه .. مزقوا رقبته ولم يصيبوا منه مقتلاً .. وجعل يخور ويصيح ..
قال محمد بن مسلمة : ثم صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار .. فذكرت رمحاً معي فأخذته .. فوضعته عند سرته .. ثم اتكأت عليه حتى بلغت عانته .. فوقع عدو الله ميتاً .. فرجعنا حتى وصلنا المدينة .. فأقبلنا إلى رسول الله فبشرناه ..
فقال : أفلحت الوجوه .. قلنا : ووجهُك يا رسول الله أفلح ..
فلله در أولئك من أبطال .. تتفجر الشجاعة من عروقهم .. والإيمان من قلوبهم ..
ألا فليعلم الجبناء الذين يتكاسلون عن نصرة الدين .. أو يشكّون إذا رأوا تسلّط الكافرين ..
وليعلم الخورةُ والضعفاءُ .. الذين يضطربون إذا رأوا سلاح المشركين .. أو سمعوا عن جيش الملحدين ..
ليعلمْ هؤلاء وأولئك .. أن القوة ليست دائماً بدبابات وطائرات .. ولا مدافع وغواصات ..
وإنما العقل قوة .. والإيمان قوة .. والحيلة قوة .. بل والله يمد بقوة .. فالملائكة الأشداء .. والصخور الصماء .. والرياح العاتية .. والأمراض القاضية .. والكيد بالكافرين .. بإرعاب قلوبهم .. واختلاف كلمتهم .. وإبطال مكرهم ..
كلها قوى تسقط الطائرات .. وتغرق السفن والغواصات ..
وما يعلم جنود ربك إلا هو ..
يقف موسى عليه السلام .. أمام البحر .. فيضربه بعصاه .. فإذا بالبحر ينقلب جندياً من جنود الله .. فينشق يبساً للمؤمنين ويغرق الكافرين ..
ويلقى إبراهيم عليه السلام في النار .. فإذا بها تكون جندياً من جنود الله .. فتكون عليه برداً وسلاماً ..
ويجتمع الكفار لحرب محمد عليه الصلاة والسلام .. فإذا بالرياح تكون من جند الله .. فتفرق الكفار عن المدينة ..
ويغزو يوشع عليه السلام .. فيقبل عليه الليل وهو لم يفرغ من عدوه .. فإذا بالشمس تنقلب جندياً من جنود الله .. فتحتبس عن المغيب .. وتنير له الدرب .. حتى انتصر ..
ويقبل أبرهة من اليمن ليهدم الكعبة .. فإذا بطيور السماء .. تنقلب إلى جند من جند الله .. وترميه بحجارة من سجيل ..
ويتكبر النمروذ الكافر عن طاعة الله .. فإذا بالذباب يكون من جند الله .. فلا يزال يؤذيه في رأسه حتى مات ..
وما يعلم جنود ربك إلا هو .. وما هي إلا ذكرى للبشر ..
ألا فليعلم الناس جميعاً .. مسلمُهم وكافرهم .. برُّهم وفاجرهم ..
أن هذا الدين عزيز .. تسكب لأجل عزه الدماء .. وتسحق الأشلاء .. فيقوم هذا الدين على أشلاء أنبيائه .. وجماجم أوليائه .. وتوقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار .. الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ..
ليعلموا أن ركب الإسلام سائر بإذن الله .. وأن الله سيُبلِغُ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار .. ولن يدع الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل .. عزاً يعز به الإسلام .. وذلاً يذل به الكفر .
فالأولى بالمقصرين من أهل الإسلام .. والمعادين له من أهل الكفر والشرك .. أن يستسلموا لشرع الله ..
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) ..
إنها سنة الله في هذا الكون لا تتبدل ولا تتغير ..
إن النصر لا يتنزل كما ينزل المطر .. ولا يُمكن المؤمنون وهم قاعدون ..
ومع أن الله قادر على نصر عباده بكن فيكون .. إلا أنه جل جلاله ..
يبتليهم ويجعل طريق النصر صعباً وشائكاً ..
ليُميِّز الصادق من الكاذب .. ويَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ .. ذَلِكَ وَلَوْ يَشَ